السبب الخامس : الغلو في الدين

دليل ذلك : عن ابن عباس قال : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة : هات ألقط لي ، قال فلقطت له نحو حصى الخذف ، فلما وضعتهن في يده قال : مثل هؤلاء _ ثلاث مرات _ وإياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " .

فهذا نص صريح وصحيح يبين أن من أسباب الهلاك فيمن قبلنا الغلو في الدين وهذا من باب التحذير من أن نسلك مسلكهم فنهلك كما هلكوا .

الغلو لغة : الإرتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء .

الغلو إصطلاحاً : مجاوزة حدود ما شرعه الله تعالى وشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم بقول أو فعل أو اعتقاد .فالقرآن والحديث واللغة دلت على ان الغلو هو التجاوز عن الحد والقدر وهو محرم في جميع الشرائع.

الأدلة على تحريم الغلو :

قال تعالى ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ  ) .

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : " ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، وهذا كثير في النصارى ، فإنهم تجاوزوا حد التصديق بعيسى ، حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ، ممن زعم أنه على دينه ، فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه ، سواء كان حقا أو باطلا أو ضلالا أو رشادا ، أو صحيحا أو كذبا ; ولهذا قال تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

وقوله : ( ولا تقولوا على الله إلا الحق ) أي : لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولدا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته - فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه ; ولهذا قال : ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) أي : إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه ، قال له : كن فكان ، ورسول من رسله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، أي : خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل ، عليه السلام ، إلى مريم ، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه ، عز وجل ، فكان عيسى بإذن الله ، عز وجل ، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها ، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأم والجميع مخلوق لله ، عز وجل ; ولهذا قيل لعيسى :إنه كلمة الله وروح منه ; لأنه لم يكن له أب تولد منه ، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها : كن ، فكان . والروح التي أرسل بها جبريل - قال ابن أبي حاتم : حدثناأحمد بن سنان الواسطي قال : سمعت شاذ بن يحيى يقول : في قول الله : ( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) قال : ليس الكلمة صارت عيسى ،ولكن بالكلمة صار عيسى .

عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"

فقوله في الآية والحديث : ( وروح منه) كقوله ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) ]  الجاثية : 13 ] أي : من خلقه ومن عنده ، وليست " من " للتبعيض ، كما تقوله النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة - بل هي لابتداء الغاية ، كما في الآية الأخرى .

وقد قال مجاهد في قوله : ( وروح منه) أي : ورسول منه . وقال غيره . ومحبة منه . والأظهر الأول أنه مخلوق من روح مخلوقة ، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله ، في قوله : (هذه ناقة الله ) ]هود : 64 [ " .

قال تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) .

يقول ابن كثير رحمه الله : أي : لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه ، حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية ، كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء ، فجعلتموه إلها من دون الله ، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخ الضلال ، الذين هم سلفكم ممن ضل قديما ( وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) أي : وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال ، إلى طريق الغواية والضلال .

الأدلة من السنة على تحريم الغلو :

- عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون ، ألا هلك المتنطعون " , أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم وأعتقاداتهم .

- عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ، وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " . 

قال الحافظ بن حجر في الفتح : " باب الدين يسر : دين الإسلام ذو يسر، أو سمى الدين يسرا مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله؛ لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم. ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم ، وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم .

" ولن يشاد الدين إلا غلبه "  والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب . قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع ، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال ، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل ، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة ، أو إلى أن خرج الوقت المختار ، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد وصحح إسناد الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى قال " كنتُ أحرسُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ذاتَ ليلةٍ فخرج لبعضِ حاجتِه قال فرآني فأخذ بيدي فانطلقْنا فمررْنا على رجلٍ يُصلِّي يجهرُ بالقرآنِ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عسى أن يكون مُرائيًا قال قلتُ يا رسولَ اللهِ يجهرُ بالقرآنِ قال فرفض يدي ثم قال إنكم لن تنالوا هذا الأمرَ بالمُغالبةِ قال ثم خرج ذاتَ ليلةٍ وأنا أحرسُه لبعضِ حاجتِه فأخذ بيدي فمررْنا برجلٍ يُصلِّي بالقرآنِ قال فقلتُ عسى أن يكونَ مُرائيًا فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كلّا إنه أَوَّابٌ قال فنظرتُ فإذا هو عبدُ اللهِ ذو الجَناحَينِ " , قال ابن المنير وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية ، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع ، كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر . 

قوله : ( فسددوا ) أي : الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط ، قال أهل اللغة : السداد التوسط في العمل . 

قوله : ( وقاربوا ) أي : إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه . 

قوله : ( وأبشروا) أي : بالثواب على العمل الدائم وإن قل ، والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره ، وأبهم المبشر به تعظيما له وتفخيما . 

قوله : ( واستعينوا بالغدوة ) أي : استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة . والغدوة بالفتح سير أول النهار ، وقال الجوهري :ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس . والروحة بالفتح السير بعد الزوال . والدلجة بضم أوله وفتحه وإسكان اللام سير آخر الليل ، وقيل سير الليل كله ، ولهذا عبر فيه بالتبعيض .

فعلى المسلم أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطع بل يعمل بتلطف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع ".

- عن أي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي : إمام ظلوم غشوم ، وكل غال مارق " .

فهذا من نصوص الوعيد التي تحذر أبلغ تحذير من الغلو في الدين .

- عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق " .

- عن انس بن مالك قال :  واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شهر رمضان . فواصلناس من المسلمين . فبلغه ذلك . فقال : " لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا ، يدع المتعمقون تعمقهم . إنكم لستم مثلي . ( أو قال ) إني لست مثلكم . إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " .

- قوله " يدع المتعمقون تعمقهم " , يدع بمعنى يترك , والتعمق المبالغة في الأمر متشدداً فيه طالباً أقصى غايته وقال النووي هم المشددون في الأمور المجاوزون الحدود في قول أو فعل , ومن يتأمل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في ذم الغلو يجد أن الغلو على ثلاثة أنواع :

"الأول: الغلو في الدين، وذلك بالاعتقادات الباطلة كما فعل بعض أهل الكتاب الذين قالوا على الله غير الحق كقولهم إن الله ثالث ثلاثة وكقول اليهود والنصارى في إنه أبن الله أو أنه إله ، وعند المسلمين نجد كثيراً من الفرق الضالة التي غلت في دينها كالرافضة، والمرجئة.

الثاني: الغلو في القرءان الكريم، وذلك بمجاوزة الحد في قراءته بالتطويل، والتطريح، والتشدق، والخروج المبالغ فيه.

الثالث: الغلو في العلم، وذلك الذي يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه، كما فعل أهل الكتاب قديماً، وكما يفعل كثير من الجهال في هذه الأيام " .

يقول ابن القيم مبيناً أن الغلو سبب لتشديد الله على العبد وعلى الأمة " نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين بالزيادة على المشروع، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ تشديد العبد، على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه إما بالقدر وإما بالشرع. فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس. فإنهم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم " .

أمثلة الغلو والتحذير منه :

- قال أبو جُحَيْفَةَ وهبٌ السُّوائيُّ " آخى النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بين سلمانَ وأبي الدرداءِ، فزار سلمانُ أبا الدرداءِ، فرأى أمَّ الدرداءِ متبذِّلةً، فقال لها : ما شأنُكِ ؟ قالت : أَخُوكَ أبو الدرداءِ ليس له حاجةٌ في الدنيا، فجاء أبو الدرداءِ، فصنع له طعامًا، فقال : كُلْ فإني صائمٌ، قال : ما أنا بآكِلٍ حتى تأكلَ، فأكل، فلما كان الليلُ ذهب أبو الدرداءِ يقومُ، فقال : نَمْ، فنام، ثم ذهب يقومُ، فقال : نَمْ، فلما كان آخِرُ الليلِ، قال سلمانُ : قُمِ الآنَ، قال : فصَلَّيَا، فقال له سلمانُ : إن لربِّكَ عليك حقًّا، ولنفسِك عليك حقًّا، ولأهلِك عليك حقًّا، فأَعْطِ كلَّ ذِي حقٍّ حقَّه، فأتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فذكر ذلك له، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : ( صَدَق سلمانُ " .

قال الحافظ ابن حجر: وفيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور .

قال أنس بن مالك : " دخلَ المسجدَ فرأى حبلًا ممدودًا بينَ ساريتينِ فقالَ ما هذا الحبلُ قالوا لزينبَ تصلِّي فيهِ فإذا فترت تعلَّقت بِه فقالَ حلُّوهُ حلُّوهُ ليصلِّ أحدُكم نشاطَه فإذا فترَ فليقعُدْ " .

- عن جابر بن عبد الله : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان . فصام حتى بلغ كراع الغميم . فصام الناس . ثم دعا بقدح من ماء فرفعه . حتى نظر الناس إليه . ثم شرب . فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام . فقال : " أولئك العصاة . أولئك العصاة " .

- عن عبد الله بن عباس : سمعت عمر بن الخطاب يقول على المنبر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "لا تطروني كما أطري ابن مريم وإنما أنا عبد فقولوا عبده ورسوله وربما قال معمر كما أطرت النصارى ابن مريم " .

يُلاحظ في النماذج السابقة من الغلو أن الذي حمل الصحابة عليها هو الرغبة الصادقة في التقرب إلى الله تعالى ولا شك في ذلك , ومع ذلك لم يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم مسوغاً وعذراً للإستمرار عليه , فمن ثم نهاهم عن ذلك وشدد في الكثير عليهم .

بعض الآثار السيئة المترتبة على الغلو :

1) هدم الإسلام وتشويه مبادئه : وذلك بسبب تصرفات الغلاة والتي يلصقونها بالإسلام وهو منها براء .

2) المروق من الدين كما حدث مع الخوارج :

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : " أقبل رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعطي الناس فقال يا محمد قد رأيت ما صنعت منذ اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل فكيف رأيت قال لم أرك عدلت قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ويحك إن لم يكن العدل عندي فعند من يكون فقال عمر بن الخطاب رحمه الله ألا نقتله قال لا دعوه فإن له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية " .

3) تمزيق الأمة وتفتيتها : بسبب الأفكار الضالة المضلة والمعتقدات الخاطئة ولعل أوضح برهان على ذلك ما حدث من الخوارج في عهد الخليفة الراشد على ابن أبي طالب .

4) الغلو قصير العمر لأنه يورث السآمة والملل ثم العجز .

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : " قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : يا عبدَ اللهِ، ألم أُخبَرْ أنك تصومُ النهارَ وتقومُ الليلَ . فقُلْتُ : بلَى يا رسولَ اللهِ، قال : فلا تَفعَلْ، صُمْ وأفطِرْ، وقُمْ ونَمْ، فإن لجسدِك عليك حقًّا، وإن لعينِك عليك حقًّا، وإن لزَوجِك عليك حقًّا، وإن لزَورِك عليك حقًّا، وإن بحَسْبِك أن تصومَ كلَّ شهرٍ ثلاثةَ أيامٍ، فإن لك بكلِّ حسنةٍ عشْرَ أمثالِها، فإن ذلك صيامُ الدهرِ كلِّه . فشَدَّدْتُ فشُدِّدَ عليَّ . قُلْتُ : يا رسولَ اللهِ، إني أَجِدَ قوةً ؟ . قال : فصُمْ صيامَ نبيِّ اللهِ داودَ عليه السلامُ ولا تَزِدْ عليه . قُلْتُ : وما كان صيامُ نبيِّ اللهِ داودَ عليه السلامُ ؟ . قال : نِصفَ الدهرِ . فكان عبدُ اللهِ يقولُ بعدَما كَبِرَ : يا ليتَني قَبِلْتُ رُخصَةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم " .

قال النووي : معناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشق عليه فعله لعجزه ، ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له ، فتمنى أن لو قبل الرخصة فأخذ بالأخف . قلت : ومع عجزه وتمنيه الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه ، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف كما في رواية حصين المذكورة : " وكان عبد الله حين ضعف وكبر يصوم تلك الأيام كذلك ، يصل بعضها إلى بعض ، ثم يفطر بعدد تلك الأيام فيقوى بذلك ، وكان يقول : لأن أكون قبلت الرخصة أحب إلي مما عدل به ، لكني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره.