السبب السابع : ترك الجهاد

 

 

برهان ذلك : عن عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " .

عن عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ظهر في قوم الزنى والربا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله " .

ففي حديث ابن عمر نص صريح ف الهلاك المعنو وهو الذل والهوان إذا فعلت الأمة ما ذكر .

وفي حديث ابن مسعود قوله أحلوا بأنفسهم عقاب الله , يشمل الهلاك الحسى والهلاك المعنوي , وبيع العينة الوارد في الحديث صورته أن يشتري الرجل سلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها إلى من اشتراه منه نقداً بثمن أقل , وهىمحرمة وسبب لهلاك الأمة , قوله ( وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع ) حمل هذا على الإشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد ( وتركتم الجهاد ) أي المتعين فعله .

قال الشوكاني (سلط الله عليكم ذلا ) بضم الذال المعجمة وكسرها أي صغارا ومسكنة ومن أنواع الذل الخراج الذي يسلمونه كل سنة لملاك الأرض .

 وسبب هذا الذل والله أعلم أنهم لما تركوا الجهاد في سبيل الله الذي فيه عز الإسلام وإظهاره على كل دين عاملهم الله بنقيضه وهو إنزال الذلة بهم فصاروا يمشون خلف أذناب البقر بعد أن كانوا يركبون على ظهور الخيل التي هي أعز مكان .

فبيع العينة وسيلة إلى الربا بل هى من أقرب وسائله , وثبت عن ابن عباس أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة درهم نسيئة، ثم اشتراها منه بخمسين نقدا. فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة . وفي رواية: إن الله لا يُخدع. هذا مما حرمه الله ورسوله.

عن امرأة أبي إسحاق السبيعي : " أنَّها دخلت على عائشةَ فدخلت معها أمُّ ولدِ زيدِ بنِ أرقمَ فقالت يا أمَّ المؤمنين : إنِّي بِعتُ غلامًا من زيدِ بنِ أرقمَ بثمانِمائةِ درهمٍ نَسيئةً , وإنِّي ابتعتُه منه بستِّمائةٍ نقدًا ؛ فقالت لها عائشةُ : بئسما اشترَيْتِ وبئسما شرَيْتِ , إنَّ جهادَه مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد بطَل إلَّا أن يتوبَ".

والوسيلة إلى الحرام حرام فأن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة , والطريق متى أفضت إلى الحرام فأن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلاً , لأن إباحاتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين , فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه , بل لابد من ترحيمها ومن هذا الباب عاتب الله تعالى أهل الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين وكان مقصودهم منع حق الفقراء فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة .

عن بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ؛ أنزل الله عليهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم " .

شبهة وجوابها :

ظاهر حديث ابن عمر : "واتبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع " فيه ذم لمن اشتغل بالزراعة من حرث وغرس وخلافه , ويشهد ويدل على ما سبق ما رواه البخاري من حديث أبي أمامة الباهلي "أنه رأى سِلَّه وشيئاً من ألة الحرث فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل " وهناك النصوص الشرعية التي تحث على الزراعة وتُرغب فيها .

عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا ، فيأكل منه طير ، أو إنسان ، أو بهيمة ، إلا كان له به صدقة " .

عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها " .

الجواب : قال الحافظ بن حجر : وقوله ( إلا أدخله الله الذل ) المراد بذلك ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم بها الولاة . وقال ابن التين هذا من إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات لأن الشاهد الآن أن أكثر الكلم إنما هو على أهل الحرث وقد أشار البخاري بالترجمة إلى الجمع بين حديث أبي أمامة وحديث أنس في فضل الزرع والغرس وذلك بأحد أمرين :

1- إما أن يحمل ما ورد من الذم على عاقبة ذلك ومحله ما إذا اشتغل فضيع بسببه ما أمر بحفظه

2- وإما أن يحمل على ما إذا لم يضيع إلا أنه جاوز الحد فيه .

وترجمة البخاري هى باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به ".

ويشهد لهذا الجمع من الأحاديث السابقة وهو أن التكثُّر المفضي إلى الإنصراف عن القيام بالواجبات التي منها الجهاد في سبيل الله – المراد بالتهلكة المذكورة في قوله تعالى " وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " وفي ذلك نزلت الآية خلافاً لما يظن كثير من الناس .

عن أسلم أبو عمران قال : غزونا من المدينة نريد القسطنطينية ]وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ] وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة ، فحمل رجل [ منا ] على العدو فقال الناس : مه مه لا إله إلا الله يلقي بيديه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب ] الأنصاري : إنما تأولون هذه الآية هكذا ، أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة أو يبلى من نفسه ] إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام قلنا [ بيننا خفيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ] هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل الله تعالى ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد قال أبو عمران : فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية" .

يترتب على ذلك سلط الله عليكم ذلا لا ينزل حتى ترجعوا إلى دينكم .

يقول الإمام ابن القيم :

"لما كان الجِهَاد ذِروةَ سَنَامِ الإسلام وقُبَّتَه، ومنازِلُ أهله أعلى المنازل فى الجنة، كما لهم الرَّفعةُ فى الدنيا، فهم الأَعْلَوْنَ فى الدنُّيَا والآخِرةِ، كان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فى الذَّروةِ العُليا منه، واسْتولى على أنواعه كُلَّها فجاهد فى اللَّهِ حقَّ جهاده بالقلب، والجَنانِ، والدَّعوة، والبيان، والسيفِ، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفعَ العَالَمِينَ ذِكراً، وأعظمَهم عند الله قدراً .

وأمره الله تعالى بالجِهاد مِن حينَ بعثه، وقال : {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان: 51-52]، فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغِ القرآن، وكذلكَ جهادُ المنافقِينَ، إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهلِ الإسلام، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّنبِىُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ المَصِيرُ} [التوبة: 73]. فجهادُ المنافقين أصعبُ مِن جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثةِ الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ فى العالَم، والمشارِكُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عدداً، فهم الأعظمون عند الله قدراً.

ولما كان مِن أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند مَن تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للِرسلِ صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا صلواتُ الله وسلامُه عليه من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه.

 ولما كان جهاد أعداءِ الله فى الخارج فرعاً على جهادِ العبد نفسه فى ذاتِ الله، كما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فى طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه)). كان جهادُ النفس مُقَدَّماً على جِهَادِ العدوِّ فى الخارج، وأصلاً له، فإنه ما لم يُجاهِدْ نفسه أوَّلاً لِتفعل ما أُمِرَتْ به، وتتركَ ما نُهيتْ عنه، ويُحارِبْهَا فى الله، لم يُمكِنْهُ جهادُ عدوه فى الخارج، فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذى بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه فى الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوِّه، حتى يُجاهِدَ نفسَه على الخروج .

فهذان عدوَّانِ قد امْتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما فى جهادهما مِن المشاق، وتركِ الحظوظ، وفوتِ اللذاتِ، والمشهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنِكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصلَ لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى : {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌ فاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر: 6]. والأمر باتخاذه عدواً تنبيه على استفراغ الوُسع فى مُحاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يَفْتُر، ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.

فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبدُ بمحاربتها وجهادها، وقد بُلى بمحاربتها فى هذه الدار، وسُلِّطَتْ عليه امتحاناً من الله له وابتلاءً، فأعطى اللَّهُ العبدَ مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسلاحاً لهذا الجِهَادِ، وأعطى أعداءه مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسِلاحاً، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضَهم لبعض فتنة لِيَبْلُوَ أخبارهم، ويمتحِنَ من يَتولاَّه، ويتولَّى رسُلَهُ ممن يتولَّى الشيطانَ وحِزبه، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ، وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان: 20]، وقال تعالى: {ذَلِكَ، وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعَضٍ} [محمد: 4]، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنُكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]. فأعطى عباده الأسماعَ والأبصارَ، والعُقول والقُوَى، وأنزل عليهم كُتُبَه، وأرسلَ إليهم رسُلَه، وأمدَّهم بملائكته، وقال لهم: {أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} [الأنفال: 12]، وأمرهم من أمره بما هو مِن أعظم العونِ لهم على حرب عدوهم، وأخبرهم أنَّهم إن امتثلوا ما أمرهم به، لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوِّهم، وأنه إن سلَّطه عليهم، فلتركهم بعضَ ما أُمروا به، ولمعصيتهم له، ثم لم يُؤُيسهُم، ولم يُقنِّطْهُمْ، بل أمرهم أن يسْتَقْبِلُوا أمرهم، ويُداووا جِرَاحَهُم، ويَعُودوا إلى مُناهضةِ عدوهم فينصَرهم عليهم، ويُظفرَهم بهم، فأخبرهم أنه معَ المتقين مِنهم، ومعَ المحسنينَ، ومعَ الصابرين، ومعَ المؤمنين، وأنه يُدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوِّهم، ولولا دفاعُه عنهم، لتخطّفهم عدوُّهم، واجتاحهم.

وهذه المدافعةُ عنهم بحسب إيمانِهم، وعلى قَدْرِهِ، فإن قَوِىَ الإيمانُ، قويتِ المُدافعة، فمَن وجد خيراً، فليحمَدِ الله، ومَن وجد غيرَ ذِلكَ، فلا يلومنَّ إلا نفسه. وأمرهم أن يُجاهدوا فيه حقَّ جهاده قال تعالى (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ  )، كما أمرهم أن يتَّقوه حقَّ تُقاته قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) وكما أن حقَّ تُقاته أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكَرَ فلا يُنسى، ويُشكَر فلا يُكفر، فحقُّ جهاده أن يُجاهِدَ العبد نفسَه لِيُسْلِم قلبه ولِسانه وجوارِحه للهِ فيكون كُلُّه لله، وباللهِ، لا لنفسِه، ولا بنفسه، ويُجاهدَ شيطانه بتكذِيبِ وعدِهِ، ومعصيةِ أمرهِ، وارتكابِ نهيه، فإنه يَعِدُ الأمانِىَّ، ويُمَنِّى الغُرورَ، ويَعِدُ الفقَر، ويأمرُ بالفحشاء، وينهى عن التُّقى والهُدى، والعِفة والصبرِ، وأخلاقِ الإيمان كُلِّهَا، فجاهده بتكذِيبِ وعده، ومعصيةِ أمره، فينشأُ له من هذين الجهادين قوةٌ وسلطان، وعُدَّة يُجاهد بها أعداءَ اللهِ فى الخارج بقلبه ولسانه ويده ومالِه، لتِكونَ كلمةُ الله هى العليا .

ثم قال رحمه الله تعالى :- إذَا عُرِفَ هذا، فالجهادُ أربع مراتب: جهادُ النفس، وجهادُ الشيطان، وجهادُ الكفار، وجهادُ المنافقين.

فجهاد النفس أربعُ مراتب أيضاً:

إحداها: أَنْ يُجاهِدَها على تعلُّم الهُدى، ودين الحق الذى لا فلاح لها، ولا سعادة فى معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت فى الدَّارين.

الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها.

الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يعلمهُ، وإلا كان مِن الذين يكتُمون ما أنزل الله مِن الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ، ولا يُنجِيه مِن عذاب الله.

الرابعة: أن يُجاهِدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله. فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربَّانِيينَ، فإن السلفَ مُجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يَستحِقُّ أن يُسمى ربَّانياً حتى يعرِفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويُعَلِّمَه، فمَن علم وَعَمِلَ وعَلَّمَ فذاكَ يُدعى عظيماً فى ملكوتِ السموات .

وأما جهادُ الشيطان، فمرتبتان، إحداهما: جهادُه على دفع ما يُلقى إلى العبد مِن الشبهات والشُّكوكِ القادحة فى الإيمان.

الثانية: جهادهُ على دفع ما يُلقى إليه من الإرادات الفاسدة والشهواتِ، فالجهادُ الأول يكون بعده اليقين، والثانى يكون بعدَه الصبر. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ، وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فأخبر أن إمامة الدين، إنما تُنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهواتِ والإرادات الفاسدة، واليقينُ يدفع الشكوك والشبهات.

وأما جهادُ الكفار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللِّسان، والمالِ، والنفسِ، وجهادُ الكفار أخصُّ باليد، وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان.

وأما جهادُ أرباب الظلم، والبِدعِ، والمنكرات، فثلاث مراتبَ: الأولى: باليدِ إذا قَدَرَ، فإن عَجَزَ، انتقل إلى اللِّسان، فإن عَجَزَ، جاهد بقلبه، فهذِهِ ثلاثةَ عشرَ مرتبةً من الجهاد، و ((مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النَّفَاقِ))